سُمّيت بأسماء عدة، منها: سورة «قلْ أعوذ بربّ الفلق»، و«سورةُ الْمعوّذةِ الأولى»، ومعسورة الناس تسمّيان «بالْمعوّذتيْن» أو «المشقشقتين» أو «المقشقشتين»، وتسميتُها فيالمصاحفوكتب التفسير «سُورَةُ الفلق».[1] لا اختلاف تقريبًا فيالقراءات العشر للسورة، إلا فيقراءة ورش عن نافع لـ «قُلْ أَعُوذُ» بنقل حركة الهمزة إلى اللام الساكنة قبلها وحذف الهمزة.[2]
تتحدث السورة عن أمر الله للنبي بأنيتعوذ بالله ربِّهِ من شر ما يُتّقى شره من المخلوقات الشريرة، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر، والأحوال التي تستتر أفعال الشر من ورائها؛ لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها، فعلَّم الله النبي هذه المعوذة ليتعوذ بها.[3] فاشتملت السورةبالأمربالاستعاذة من كل شر، ومن الليل إذا أظلم ومن شر الساحرات اللواتي ينفخن في العُقد، ومن شر حسد الحاسدين. وورد العديد منالأحاديث النبوية في فضلها، فكان النبي يقرأ هاتين المعوذتين إذا أوى إلى فراشه وينفث في يديه ويمسح بهما ما أقبل وأدبر من بدنه، ويأمر بقراءتهما دُبُرَ كل صلاة، كما حثَّ النبي على قراءتهما ثلاثًا فيالصباح والمساء معسورة الإخلاص.
عدد آيات سورة الفلق خمس آيات بالاتفاق، ولا اختلاف في عدّها.[4] أما عدد كلماتها فثلاث وعشرون كلمة، قالأبو عمرو الداني: «وكلمها ثَلَاث وَعِشْرُونَ كلمة ككلمالْفِيلوالمسد». وحروفها المرسومة 71 حرفًا حسبالرسم العثماني، بينما اختلف أهل العدد في عدد الحروف على قولين حسب اختلاف مناهجهم في العدّ. فقالأبو عمرو الداني: «وحروفها تِسْعَة وَسَبْعُونَ حرفًا كحروفالناس».[5] وقالَأبو إسحاق الثعلبي: «وهي أربع وسبعون حرفًا»،[6] وكذلك قالَالخطيب الشربيني: «أربع وتسعون حرفًا».[7]
كما تُسمى مع سورة الناس «المشقشقتين» بتقْديم الشينين على الْقافيْن، كقولهم خطيب مُشَقشق، أي مسترسل القول تشبيهًا له بالفَحل الكريم من الإِبل يَهْدِر بشِقْشَقَةٍ وهي كاللحم يبرز من فيهِ إذا غضب.[10]
ذكرالمفسرون أن المعوذتين نزلتا بسبب أنلبيد بن الأعصمسَحَرَالنبيَّ، وبالرغم من أن قصة لبيد بن الأعصم وردت فيالصحيحين إلا أن الربط بينها وبين نزول السورتين لم يرد فيالكتب الستة، وقد قيل إن سبب نزولهما أنقريشًا ندبوا من اشتهر بينهم أن يصيب النبي بعينه -أيبالحسد-، فنزلت المعوذتان ليتعوذ منهم بهما؛ لكن السبب الأول أشهر.[8]
ورد فيسبب نزول سورتي المعوذتين ما ذكرهجلال الدين السيوطي في كتابهلباب النقول في أسباب النزول، وأخرجهالبيهقي فيدلائل النبوة عنابن عباس قال: مرض رسول اللهﷺ مرضًا شديدًا، فأتاه مَلَكان، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما ترى؟ قال: طُبَّ، قال: وما طُبَّ؟ قال: سُحِرَ، قال: ومَنْ سَحَره؟ قال:لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: أين هو؟ قال: في بئر آل فلانٍ تحت صخرةٍ في رَكِيَّة، فَأْتوا الرَّكِيَّة، فانزحوا ماءها، وارفعوا الصخرة، ثم خذوا الكُدْية وأحرقوها، فلما أصبح رسول اللهﷺ بعثعمار بن ياسر في نفر، فَأَتَوا الرَّكِيَّةَ، فإذا ماؤها مثل ماء الحناء، فنزحوا الماء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الكُدْيَةَ، وأحرقوها، فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدةً، وأُنزلت عليه هاتان السورتان، فَجَعل كلما قرأ آيةً انحلت عقدة:﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ١﴾ [الفلق:1] و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ١﴾ [الناس:1]. وفي ذات السبب أخرجأبو نعيم في دلائل النبوة عنأنس بن مالك قال: صنعت اليهود لرسول اللهﷺ شيئًا، فأصابه من ذلك وجع شديد، فدخل عليه أصحابه فظنوا أنه لُمَّ به، فأتاهجبريلبالمعوذتين، فعوَّذوه بهما، فخرج إلى أصحابه صحيحًا.[11]
قالالبغوي: «وقيل: كانت مغروزة بالإبر، فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية: سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلتِ العقد كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عِقال، قال: وروي أنه لبث فيه ستة أشهر، واشتد عليه ثلاثة أيام، فنزلت المعوذتان.».[12] وجاء في كتاب «البرهان في تفسير القرآن»: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «كَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَنَّهُ وُعِكَ رَسُولُ اللَّهِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ جَبْرَئِيلُ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فَعَوَّذَهُ بِهِمَا»».[13]
ورد العديد منالأحاديث النبوية في فضل سورة الفلق مع سورة الناس، فقد كان النبي يقرأ هاتين المعوذتين إذا آوى إلى فراشه وينفث في يديه ويمسح بهما ما أقبل وأدبر من بدنه، ويأمر بقراءتهما دبر كل صلاة، كما حث النبي على قراءتهما ثلاثًا فيالصباح والمساء معسورة الإخلاص وأن قراءتهن تكفي المرء من كل شيء.[17] ومن الأحاديث التي وردت في فضلها:
عنعقبة بن عامر قال: بينا أنا أقود برسول اللهﷺ في نقب من تلك النقاب، إذ قال لي: "يا عقب، ألا تركب؟" قال: فأجللت رسول اللهﷺ أن أركب مركبه، ثم قال: "يا عقب، ألا تركب؟" قال: فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول اللهﷺ وركبت هنيهة، ثم ركب، ثم قال: "يا عقب، ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟" قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: فأقرأني: قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول اللهﷺ فقرأ بهما، ثم مر بي، قال: " كيف رأيت يا عقب؟ اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت.[18]
وعن عبد الله بن خبيب قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب النبيﷺ ليصلي لنا، فأدركناه فقال: قل، فلم أقل شيئا، ثم قال: قل، فلم أقل شيئا، ثم قال: قل، فقلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: قل «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، وَالمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي وَتُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.[20][21]
واستنادًا على هذه الأحاديث فقد استحب العلماء قراءة الإخلاص والفلق والناس بعدصلاتي الفجروالمغرب ثلاث مراتٍ، فهما صلاتا الصباح والمساء، وأما بعد باقيالصلوات فمرة واحدة دبر كل صلاة. وجاء في فتاوىاللجنة الدائمة: «ورد قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين دبر كل صلاة، لما رواهأبو داود فيسننه عن عقبة بن عامر قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة)، وفي رواية الترمذي: (بالمعوذتين) بدل المعوذات. فينبغي أن يقرأ: (قل هو الله أحد)، و(قل أعوذ برب الفلق)، و(قل أعوذ برب الناس) دبر كل صلاة، وأن تكرر عقب صلاة الفجر والمغرب ثلاث مرات، يقرؤها كل إنسانٍ وحده بقدْر ما يُسمع نفسه.».[21] وقيل بأن تكرارها ثلاثَ مراتٍ هو في الصباح والمساء، فأما دبرصلاتي الفجروالمغرب فواحدة مثل باقي الصلوات.[22]
واستدل العلماء على أنهما تكفيان من كل شر، قالالطيبي: «أي تدفع عنك كل سوء، فمن زائدة في الإثبات على مذهب جماعة وعلى مذهب الجمهور أيضا، لأن يكفيك مُتضمّنَةٌ للنفي كما يُعلَمُ من تفسيرها بـ"تدفع"، ويصح أن تكون لابتداء الغاية، أي تدفع عنك من أول مراتب السوء إلى آخرها، أو تبعيضية، أي بعض كل نوعٍ من أنواع السوء، ويحتمل أن يكون المعنى: تغنيك عما سواها، ويَنْصُرُ المعنى الثاني ما في الحديث الأول وهو حديث عقبة لقوله: فما تعوّذ مُتعوِّذ بمثلها.».[20]
محتوى السورة هو أمر الله للنبي بأنيتعوذ بالله ربِّهِ من شر ما يتقى شره من المخلوقات الشريرة، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر، والأحوال التي تستتر أفعال الشر من ورائها؛ لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها، فعلَّم الله النبي هذه المعوذة ليتعوذ بها.[3] وقد جاء ترتيب سورة الفلق فيالمصحف السورة قبل الأخيرة في المصحف، وجاءت بعدها سورة الناس، يقول في ذلكجلال الدين السيوطي: «قُدّمت الفلق على الناس -وإن كانت أقصرَ منها- لمناسبة مقطعها في الوزن لفواصل الإخلاص مع مقطع تبّتْ.» وعلَّقفخر الدين الرازي على مناسبة السورة لما قبلها من السور فقال: «بدأ بذكر صفات الله، وشرْح جلالِهِ في سورة «الإخلاص»، ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في «الفلق»، ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية في «الناس»، وعند ذلك ختم الكتاب.» ثم فصّل ذلك بعد تفصيله سورة الفلق فقال:[27]
لما شرح الله سبحانه أمر الإلهية في سورة "الإخلاص"، ذكر هاتين السورتين عقبها في شرح مراتب الخلق على ما قال: ألا له الخلق والأمر.
فعالم الأمر كله خيرات محضة، بريئة عن الشرور والآفات، وأما عالم الخلق فهو الأجسام الكثيفة، والجثمانيات، فلا جرم قال في المطلع: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق. ثم من الظاهر أن الأجسام إما أثيرية أو عنصرية، والأجسام كلها خيرات محضة; لأنها بريئة عن الاختلال والفطور، على ما قال: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور". وإما عنصرية، فهي إما جمادات، فهي خالية عن جميع القوى النفسانية، فالظلمات فيها خالصة، والأنوار عنها زائلة، وهو المراد من قوله: ومن شر غاسق إذا وقب. وإما نبات، والقوة العادلة هي التي تزيد في الطول والعمق معا، فهذه القوة النباتية كأنها تنفث في العقد. وإما حيوان، وهو محل القوى التي تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب، والاشتغال بقدس جلال الله، وهو المراد بقوله: ومن شر حاسد إذا حسد.
ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية، وهى المستعيذة، فلا يكون مستعاذا منها فلا جرم قطع هذه السورة، وذكر بعدها في سورة "الناس" مراتب ودرجات النفس الإنسانية.
ابتدأت السورةبفعل أمربالاستعاذة، بخطاب مُوَّجه إلىالنبي، والعوذ: اللجأ إلى شيءٍ يقي من يلجأ إليه ما يخافُه، يقال: عاذ بفلان، وعاذ بحصن، ويقال: استعاذ، إذا سأل غيره أن يعيذه، قال تعالى:﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة الأعراف: 200) وعاذ من كذا، إذا صار إلى ما يعيذه منه، قال تعالى:﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (سورة النحل: 98). والفلق: الصبح، وأصل الفلق: الانشقاق عن باطن شيء، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل.[28]
وقيل في معنى الفلق معانٍ أخرى، فقيل: «سجن فيجهنم» قالهابن عباس. وقالأبي بن كعب: «بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من حره». وقال الحبلي أبو عبد الرحمن: «هو اسم من أسماء جهنم». وقالالكلبي: «وادِ في جهنم». وقالعبد الله بن عمر بن الخطاب: «شجرة في النار». ورُوي عنسعيد بن جبير: «جب في النار». وعنجابر بن عبد الله الأنصاريوالحسن البصريوسعيد بن جبيرومجاهد بن جبروقتادة بن دعامةومحمد بن كعب القرظيوعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «الفلق: الصبح». فقيل: فكل ما انفلق عن شيءٍ من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق، قال الله تعالى:﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ٩٦﴾، وقال:﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ٩٥﴾ [الأنعام:95]. وتقول العرب: «هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح». وقال الشاعر:[29]
يا ليلة لم أنمها بت مرتفقا
أرعى النجوم إلى أن نور الفلق
وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفلق بالمياه، أي تتشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور، لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل. قالزهير بن أبي سلمى:
أي قل: أستعيذ برب المخلوقات، ومبدع الكائنات، من كل أذى وشر من مخلوق من مخلوقاته طرّا. ثم خصص من بعض ما خلق أصنافًا يكثر وقوع الأذى منهم فطلب إليه التعوذ من شرهم ودفع أذاهم، قالفخر الدين الرازي:[30]
في تفسير هذه الآية وجوه:
أحدها: قال عطاء عن ابن عباس: يريد إبليس خاصة؛ لأن الله تعالى لم يخلق خلقًا هو شر منه؛ ولأن السورة إنما نزلت في الاستعاذة من السحر، وذلك إنما يتم بإبليس وبأعوانه وجنوده.
وثانيها: يريد جهنم كأنه يقول: قل أعوذ برب جهنم ومن شدائد ما خلق فيها.
وثالثها: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) يريد من شر أصناف الحيوانات المؤذيات كالسباع والهوام وغيرهما، ويجوز أن يدخل فيه من يؤذيني من الجن والإنس أيضا، ووصف أفعالها بأنها شر، وإنما جاز إدخال الجن والإنسان تحت لفظة "ما"؛ لأن الغلبة لمّا حصلت في جانب غير العقلاء حسُن استعمال لفظة "ما" فيه؛ لأن العبرة بالأغلب أيضًا، ويدخل فيه شرور الأطعمة الممرضة وشرور الماء والنار، فإن قيل: الآلام الحاصلة عقيب الماء والنار، ولدغ الحية والعقرب حاصلة بخلق الله تعالى ابتداءً على قول أكثر المتكلمين، أو متولدة من قوىً خلقها الله تعالى في هذه الأجرام على ما هو قول جمهور الحكماء وبعض المتكلمين، وعلى التقديرين فيصير حاصل الآية أنه تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يستعيذ بالله من الله، فما معناه؟ قلنا: وأي بأسٍ بذلك، ولقد صرح عليه السلام بذلك، فقال: وأعوذ بك منك.
ورابعها: أراد به ما خلق من الأمراض والأسقام والقحط وأنواع المحن والآفات.
الصفحة الختامية من مخطوطة القرآن تعودللعصر المملوكي لأحمد بن كمال بن يحيى الأنصاري.
النفث: نفخ مع تحريكاللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل يفعلهالسحرة. فالنفاثات في العقد هن «النساء الساحرات»، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحرَ النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة، فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هذه الأعمال من السحر والتكهن ونحو ذلك. وقيل جيء بصفة المؤنث نسبة إلى «النُّفُوسُ»، وقيل «الجماعات».[33][34]
والعُقد: جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وتر يزعم السحرة أن سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقد معقودة، ولذلك يخافون من حلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يُهتدى إليه. وقد جاء فيالحديث عَنْأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِﷺ:«مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ».[35] بينما قالأَبُو عُبَيْدَةَ: «"النَّفَّاثَاتِ" هُنَّ بَنَاتُلَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ الْيَهُودِيِّ سَحَرْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، ومجيء النفاثات مُعرَّفةً باللام إشارةٌ إلى أنهن كن مَعلوماتٍ بين العرب. وعطف شر النفاثات في العقد على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحرة إجراء السحر لئلا يطّلع عليهم أحد. قالمحمد الطاهر بن عاشور:[34]
«وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفث، فلم يقل: إذا نفثن في العقد، للإشارة إلى أن نفثهن في العقد ليس بشيءٍ يجلب ضرًّا بذاته وإنما يجلب الضر النافثات وهن متعاطيات السحر، لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئًا مما يحقق له ما يعمله لأجله إلا احتال على إيصاله إليه، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو بغير قصد، أو قاذورات يفسد اختلاطها بالجسد بعض عناصر انتظام الجسم يختل بها نشاط أعصابه أو إرادته، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليُري لمن يسألونه السحرَ أن سحره لا يَتخلف ولا يُخطىء.»
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، قالابن عباسوعطاء: «من نفس ابن آدم وعينه».الحسد هو تمني زوال نعمة المحسود؛ وإن لم يَصِرْ للحاسد مثلُها. والمنافسة هي تمني مثلُها وإن لم تَزِلْ. فالحسد شر مذموم. والمنافسة مباحة وهيالغبطة.[36] وقد روي أن النبي قال: إنَّ الْمُؤْمِنَ يَغْبِطُ وَالْمُنَافِقَ يَحْسُدُ.[37] وقال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعلٍ أو قولٍ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. وعُطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل حيث يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاه لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل، لأن الليل وقت الخلوة وخطور الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد وبالمحسود.[34]
واستدل العلماء بالآية على أن العين حق، واستحباب التعوذ من الحسد والعين.[36] وروىأحمدومسلم أن النبي قال: «العين حق، ولو كان شيء سابقٌ القدرَ لسبقته العين».[38] وقالالحسين بن الفضل: إنَّ الله جمع الشرور في هذه الآية وختمها بالحسد ليُعلم أنه أخسُّ الطبائع.[39]
قالالقرطبي في تفسير هذه الآية: «والحسد مذموم، وصاحبه مغموم، وهو يأكلالحسنات كما تأكل النار الحطب. ويقال: الحسد أول ذنب عُصيَ الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فأما في السماء فحسدإبليسلآدم، وأما في الأرض فحسدقابيل لهابيل».[36] وقالالزجّاج: «قيل: لا ينبغي أن يتمنى الرجل مال غيره ومنزل غيره، فإِن ذلك هو الحسد»، وقالابن عثيمين: «والآية تدلُّ على تحريم الحسد؛ لأنَّ مشابهة الكفار بأخلاقهم محرمة. والحاسد لا يزداد بحسده إلا نارًا تتلظى في جوفه؛ وكلما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة؛ فهو مع كونه كارهًا لنعمة الله على هذا الغير مضاد لله في حكمه؛ لأنَّه يكره أن يًنعم الله على هذا المحسود، ثم إنَّ الحاسد أو الحسود مهما أعطاه الله من نعمةٍ لا يرى لله فضلًا فيها؛ لأنَّه لابدَّ أن يرى في غيره نعمة أكثر مما أنعم الله به عليه، فيحتقرَ النعمة».[39]
فعلٌ ماضٍ مبني على الفتح، والفاعل: ضميرٌ مُستتر تقديره هو. والجملة في محل جر بالإضافة،[42] وجملة مقول القول (أعوذ برب الفلق ... ومن شر حاسد إذا حسد) في محل نصب مفعول به لفعل الأمر (قُلْ).