هذه المقالة عن حياة الملك سليمان عمومًا مع التركيز على قصته كما وردت في التوراة. لمعلومات عن لمقالة التي تتحدث عن الملك كما جاء في القرآن، طالعسليمان في الإسلام.
سُلَيْمَان (بالعبرية: שְׁלֹמֹה؛ تلفظ: شلومو،بالآرامية: ܫܠܡܐ)، هو أحد ملوكمملكة إسرائيل الموحدة حسب الوارد فيسفر الملوك الأولوسفر أخبار الأيام الأول[4] وحسبالتلمود، هو أحد الأنبياء الثمانية والأربعين وابنداود وثالث ملوك مملكة إسرائيل الموحدة قبل انقسامها إلىمملكة إسرائيل الشمالية وهي المملكة التي بقي يحكمهاقبائل إسرائيل الاثنا عشرومملكة يهوذا في الجنوب والتي حكمها أبناءسبط يهوذا وهي القبيلة الوحيدة الباقية من القبائل الإثنا عشر حسب كتابات اليهود.[5] يعتقد أنه عاش في الفترة ما بين 990 ق.م حتى 931 ق.م وتوفى عن عمر 52 واشتهر -وفق العقيدة اليهودية- بحكمته وثرائه وملكه الكبير وعدد من الذنوب التي بموجبها عاقبيهوه بني إسرائيل بتقسيم مملكتهم.[6] ارتبط اسم سليمان بعدد من القصص المذكورة فيالعهد القديم مثل لقاءه معملكة سبأ التي ذكرت فيالقرآن كذلك وقصة قضاء سليمان بين المرأتين المتخاصمتين على رضيع، ويعتقد حسب التراث اليهودي أنه أول من بنىالهيكل وقصته مع ملك الجن أشماداي (بالعبرية:אשמדאי).
وجود سليمان من الناحية التاريخية وبالصورة التي صورها كتبةالتناخ والكتب الدينية الأخرى محل خلاف بين علماء الآثاروالأنثروبولجيا فلا يوجد له ولا لهيكله أي أثر فيفلسطين كما لا يأتي أي ذكر له في حوليات الحضارات المفترض أنها جاورته فيمصر القديمةوآشوروفينيقيا أو تلك التي يعتقد أنها اتصلت به فياليمن القديم.[بحاجة لمصدر]
ورد فيسفر الملوك الأول أنداود عندما كبر في السن لم يعد باستطاعته الشعور بالدفء فعرض عليه مستشاريه تزويجه من فتاة صغيرة وجميلة لعلها تدفئ داود في شيخوخته ووجدوا فتاة اسمها «أبيشج الشونمية» لتقوم بهذا الغرض. وكان لداود عدد من الأبناء حينها هم أدونيا وأبشالوم وأمنون وشفطيا ويثرعام وكيلاب وأعلن أدونيا نفسه ملكاً على إسرائيل خلال شيخوخة أبيه، لكنه ما حز في نفس النبي ناثان الذي كان مستشاراً لداود، فهرع ناثان إلى أم سليمان مخبراً إياها بفعلة أدونيا وحثها على الذهاب إلىداود وذلك لسببان، أنيهوه أراد من سليمان أن يبنيالهيكل عقب وفاة داود والسبب الثاني هو وعد داود لزوجته أو أمته حقيقة كما ورد في السفر بتسليم سليمان الملك رغم أن أدونيا هو أكبر أبناء الملك داود الأحياء إلا إنه كان مدللا ومغرورا ولم يلق قبولا من الكهنة والأنبياء.[7]
فقال داودلبثشبع والدة سليمان، والنبي ناثان والكاهن صادوق:
فأنزلوه من المذبح وسجد أمام سليمان الذي عفى عنه وردّه إلى بيته. ولما استوى الملك لسليمان عقب وفاة داود توجه أدونيا إلى أم سليمان مطالباً إياها بالتوسط عنده ليزوجه «أبيشج الشونمية» إلا أن الطلب قوبل بالرفض وأرسل سليمان قائد جيشه المدعو بنياهو بن يهوياداع لقتله وبذلك تخلص سليمان من أخاه وكل تهديد ضد ملكه.[8]
كان سليمان يحكم بشكل مطلق كونه مختار منيهوه وتمكن من توسيع سلطانه عبر التزواج مع عدد من بنات ملوك الممالك المجاورة مثل ابنةالفرعون المصري غير المسماة في النصوص العبرية وأُعتبر الزواج حلفاً سياسياً بين مملكة إسرائيلومصر القديمة[9] حسب كتابات اليهود، فإن سليمان تزوج من ابنة الفرعون المصري ويذكر العهد القديم أن الفرعون المصري غير المسمى احتل «جازر» ضمن مدينةالرملة الفلسطينية حالياً وقام بإبادةالكنعانيين وذُكر في النص أن المدينة أصبحت لسليمان عقب غزوة الفرعون المصري[10] تزوج كذلك من ابنة ملكمملكة عمون وصيدا وموآب وازدهرت مملكة إسرائيل بسبب العلاقات التجارية والسياسية مع هذه الممالك ويذكر العهد القديم أن كل ملوك الأرض أتت لتستمع لحكمة سليمان وتتعلم منه ويأتونه بالذهب والهدايا كل سنة بل جعل شعوب كنعان كلها عبيد مسخرة له ولبني إسرائيل ولم يستعبد أحد من العبرانيين لإنهم «رجال قتال» على ما ورد فيالعهد القديم.[11][12]
لا توجد إشارة فيالكتاب المقدس إلى زواج بين سليمان وملكة سبأ. ورد فيسفر الملوك الأول بالإصحاح العاشر، أن ملكة سبأ (لم يرد اسمها) سمعت بحكمته في جملة ملوك الأرض التي سمعت بها كذلك إلا أنها أرادت أن «تمتحنه بمسائل»، فقدمت عليه بقوافل كبيرة تحمل ذهباً وأطياباً وأقرت بحكمة وعظمة مُلك سليمان وأن ما رأته بعينها فاق الأوصاف والأخبار التي وردت إليها عنه[13] حسب التراث اليهودي، فإن الملكة قدمت على سليمان وسألته أسئلة واختبرته بألغازوأحاجي كثيرة حتى أيقنت أن ما لدى سليمان من الحكمة والثراء الممنوحة له من إلهه يفوق ما لديها،[14] وحسب بعض التقاليد اليهودية، فإن سليمان تزوج منها وأنجبت إبناً اسمهبن صيرة.[15]
أحد أبرز الصفات التي اشتهر بها سليمان هي الحكمة وورد ذلك فيالعهد الجديد والقرآن كذلك. وأشهر قصصالعهد القديم بشأن حكمته تظهر في قصة المرأتان المتخاصمتان على رضيع. حلم سليمان ذات ليلة وتراءى له أنه يحدثيهوه فشكره على رحمته بأباه داود وأن مكن له في الملك عقب وفاته رغم صغر سنه فباركه يهوه بأن منحه حكمة ومُلكاً لم يُعطى لأحد قبله ولن يحظى به أحد من بعده:
يحكي العهد القديم قصةالزانيتان فيسفر الملوك الأول وهي أشهر القصص الدالة على حكمته حسب التراث اليهودي. دخلت إمرأتان على سليمان وكانتا متزوجتين من أخوان ويعيشان في بيت واحد. نامت إحداهما ليلاً مع رضيعه وقتلتها خطأ ويبدو من الوارد في التوارة أنها نامت عليه دون أن تشعر فأدى ذلك إلى وفاته. فقامت في حين غفلة من المرأة أخرى وأخذت إبنها ووضعت الرضيع الميت مكانه إلا أن الحيلة لم تنطلي على المرأة لمعرفتها بإبنها وقرروا الاحتكام لدى سليمان. سمع سليمان حجج المرأتين وكلتيهما يدعيان أمومة الطفل فنادى على سياف وأمره بشق الطفل إلى نصفين ليحل الخلاف، فأضطربت والدة الطفل الحقيقية وسألت سليمان أن لا يقتله ويعطيه لغريمتها بينما كان رد الأخرى جافاً ووافقت على قطع الطفل لكي لايكون لأيهما، حينها علم سليمان أيهم أم الطفل الحقيقية وهي تلك التي آثرت أن تفقد طفلها على أن تراه يُقتل.
ورد فيسفر طوبيا اسم ملك من العفاريت وهو حسب التراث العبري، عفريت متعة ومسؤول عن بيوت اللعب واللهو وأُضيف في الأدب المسيحي إلى قائمة أمراء الجحيم السبعة.[17] حسب التلمود، هو أحد هؤلاء الجن والعفاريت المقربين منإبليس ويهوه في المحكمة الإلهية ومسؤول عن إلحاق الضرر بهؤلاء الذين لا يلتزمون بتعاليمكشروت وهو أحد العفاريت التي ساعدت سليمان على بناءالهيكل.[18] القرآن لم يذكره ولكنه ذكر عن تحكم سليمان بالجن والعفاريت وأعمال البناء التي كانوا يقومون بها لأجله.[19] وحسب التراث اليهودي، فإن الهيكل بُني فيأورشليم في أرض يقال لها «بيدر» اشتراهاداود لتكون مقرتابوت العهد وهو المكان الذي ترائلموسى في «البرية»[20] ولم يبني داود الهيكل وانصاع لرغبة إله إسرائيل بأن يتم بناء الهيكل في عهد إبنه سليمان. ولمدة ثلاثة عشر سنة، بنى سليمان عدداً كبيراً من المعابد حسب الوارد في الأسفار، منها بنائه لميناء فيإدوم وبناء ثكنة عسكرية فيتدمر كذلك.
توفي سليمان بعد أربعين سنة من الحكم المطلق ثلاثة وثلاثون منها كان علىإسرائيل ويهوذا وسبعة علىالخليل ومات ميتة طبيعية وخلفه إبنهرحبعام. تروي التوراة أن من أسباب انقسام المملكة هو تعلق سليمان بنساء منالأغيار مثل ابنة الفرعون المصري التي أغوت قلبه بإتباع آلهةمصر القديمة وبنى سليمان عدد من المعابد لتقديس هذه الآلهة بل كانت أكثر زوجاته الثلاثمائة تأثيراً وهناك شبه إجماع بين التوراتيين أنها المرأة المعنية فيسفر نشيد الأنشاد.[21] والزواج منالأغيار ممنوع حسب النصوص الدينية اليهودية[22] فأثرت أؤلئك النسوة على توجهات سليمان وإيمانه فورد في سفر الملوك أن تعلقه بإله إسرائيل لم يكن كتعلق والده داود وأن قلبه مال لإلهة الصيدونيين (الفينقيين)عشتروت مما أثار غضبيهوه ووعد بتمزيق مملكته تمزيقاً في عهد إبنهرحبعام، والسبب في تأجيل العقوبة هو احترام يهوه لداود.[23]
وهو سليمان بنداود بن أيشا بن عوبيد بن عابر بن سلمون بن نخشون بن عميناداب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بنيعقوب بنإسحاق بنإبراهيم الربيع، نبي الله ابن نبي الله.
جاء في بعض الآثار أنه دخلدمشق. قالابن ماكولا: فارص بالصاد المهملة، وذكر نسبه قريباً مما ذكرهابن عساكر.
سليمان هو أحد أنبياءالله فيالإسلام وقد ذكر ملكهالقرآن ونسب إليه جيشا من الوحش والطير والجن والبشر وصفات أخرى مثل قدرته على فهم منطق جميع الكائنات بما فيهاالنمل[24][25]وقد قالالحافظ أبو بكرالبيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا علي بن حمشاد حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا علي بن قدامة، حدثنا أبو جعفرالإستوائي (الاستوائي نسبة إلى اتسوا وهي كورة بنواحينيسابور ذكره صاحبمعجم البلدان وفيه: محمد بن بسطام بن الحسن الاستوائي وقد ولي قضاء نيسابور ودام له القضاء ولأولاده.[26]) يعني محمد بن عبد الرحمن عن أبي يعقوب القمي (وهو أبو الحسن يعقوب بن عبد الله بن سعد بن مالك الأشعري القمي)، حدثني أبو مالك قال: مرسليمان بنداودبعصفور يدور حول عصفورة فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يانبيالله؟ قال: يخطبها إلى نفسه، ويقول زوجيني أسكنك أي غرفدمشق شئت. قالسليمان عليه السلام: لأن غرفدمشق مبنيةبالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد ولكن كل خاطب كذاب[27] وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات: (وأوتينا من كل شيء) أي من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلاتوالجنودوالجيوش والجماعات منالجنوالإنسوالطيوروالوحوشوالشياطين السارحات والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات ثم قال: (إن هذا لهو الفضل المبين) أي من بارئ البريات وخالق الأرض والسموات كما قال تعالى:﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ١٧ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ١٨ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ١٩﴾سورة النمل، الآيات 17-19.[28]
يذكر القرآن حادثة لسليمان معنملة، حيث أنه ركب يوما في جيشه جميعه منالجنوالإنسوالطير،فالجنوالإنس يسيرون معه، والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره، وعلى كل من هذهالجيوش الثلاثة وزعة -أي نقباء- يردون أوله على آخره، فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه ولا يتأخر عنه[29] كذلك:﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ١٨﴾سورة النمل، الآية 18[30] فأمرت وحذرت واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور.
ولعل الله تعالى أراد أن يعلم سليمان عليه السلام أن لله ممالك عظيمة وإن كانت صغيرة الحجم لا يهتم بتحطيمها من يمر عليها فأراد سبحانه أن لا يكون في نفس سليمان في ملكه الواسع العريض شيء من الافتخاروالعجب.
وبحسب القرآن فقد فهم سليمان ما خاطبت به تلك النملة فالنملة لها سلطان ودولة وجنود وهي تقوم بحراستهم وإبعادهم عن الشر ومواقع الخطر، فتبسم من ذلك على وجه الرضا والفرح بقول النملة وعرف أن الله يختبره، ففزع يدعو الله أن يوفقه لشكره بما أنعم عليه وعلى والديه، وأن يعمل عملا يرضي الله، وأن يدخله مع عباده الصالحين بأن ييسر له السير على منهجهم.[31]
والمراد بوالديه في آيةسورة النمل،داود وأمه وكانت من العابدات الصالحات كما قال سنيد بن داود، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه عن جابر عن النبي محمد قال: «قالت أم سليمان بنداود: يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيرا يوم القيامة».[32]
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عنالزهري، أن سليمان خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقيتم إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها.[33] قال ابن عساكر:[34] وقد رويمرفوعا ولم يذكر فيه سليمان ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز، عن سلامة بن روح بن خالد، عن عقيل، عن ابن شهاب حدثنيأبو سلمة، عنأبي هريرة أنه سمع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «خرَج نبيٌّ منَ الأنبياءِ يَستَسقي فإذا هو بنملةٍ رافعةٍ بعضَ قوائِمِها إلى السماءِ فقال ارجِعوا فقدِ استُجيبَ لكم مِن أجلِ شأنِ النملةِ»، وقالالسدي: أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه السلام، فأمر الناس فخرجوا فإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول: «اللهم إنا خلق من خلقك ولا غناء بنا عن فضلك» قال فصب الله عليهم المطر.
يذكر القرآن ما كان من أمر سليمانوالهدهد وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون[36] يقومون بما يطلب منهم، ويحضرون عنده بالنوبة كما هي عادة الجنود مع الملوك.وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكرهابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الأسفار يجيء فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء وفيه من القوة التي أودعها الله فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض فإذا دلهم عليه حفروا عنه واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم.فلما تطلبه سليمان ذات يوم فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته (فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) أي ماله مفقود من ههنا أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي (لأعذبنه عذابا شديدا) توعده بنوع من العذاب. اختلف المفسرون فيه والمقصود حاصل على كل تقدير (أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) أي بحجة تنجيه من هذه الورطة. كما ذكر بالقرآن: (فمكث غير بعيد) أي فغاب الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها: (فقال) لسليمان: (احطت بما لم تحط به) أي اطلعت على ما لم تطلع عليه (وجئتك منسبأ بنبأ يقين) أي بخبر صادق (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاداليمن من المملكة العظيمةوالتبابعة المتوجين، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم لم يخلف غيرها فملكوها عليهم. وذكرالثعلبي وغيره أن قومها ملكوا عليهم بعد أبيها رجلا فعم به الفساد، فأرسلت إليه تخطبه فتزوجها فلما دخلت عليه سقته خمرا ثم حزت رأسه ونصبته على بابها[37]،
وقوله تعالى: (وأوتيت من كل شيء) أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك (ولها عرش عظيم) يعني سرير مملكتها كان مزخرفا بأنواع الجواهر واللآلئوالذهب والحلى الباهر.فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أنالهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها وهي في خلوة لها ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها، فجمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها (قالت يا أيها الملأ إني القي إلي كتاب كريم) ثم قرأت عليهم عنوانه أولا (إنه من سليمان) ثم قرأته: (وإنهبسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي واتوني مسلمين) ثم شاورتهم في أمرها وما قد حل بها وتأدبت معهم، وخاطبتهم، وهم يسمعون﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ٣٢﴾[38](سورة النمل،الآية 32) تعني ما كنت لأقضي أمرا إلا وأنتم حاضرون (قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد) يعنون لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين ومع هذا﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ٣٣﴾[39](سورة النمل،الآية 33) فبذلوا لها السمع والطاعة وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة، وفوضوا إليها في ذلك الامر، لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم، فكان رأيها أتم وأسد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف ولا يخادع﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ٣٤﴾[40](سورة النمل،الآية 34) تقول برأيها السديد إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الأمر من بينكم إلا إلي ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البليغة إلا علي﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ٣٥﴾[41](سورة النمل،الآية 35) أرادت أن تصانع عن نفسها، وأهل مملكتها بهدية ترسلها، وتحف تبعثها ولم تعلم أن سليمان عليه السلام لا يقبل منهم، والحالة هذه صرفا ولا عدلا لأنهمكافرون وهو وجنوده عليهم قادرون ولهذا﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ٣٦﴾[42](سورة النمل،الآية 36) هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة، كما ذكره المفسرون فعنابن عباس: «بعثت باثنتي عشرة وصيفة، واثني عشر غلاما، وعلى يد الوصائف أطباقمسكوعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب، وبعصا كان يتوارثهاملوك حمير; وبخرزتين إحداهما مثقوبة ثقبا معوجا والأخرى غير مثقوبة. وبقدح من ذهب».ثم قال لرسولها إليه ووافدها (قيل بعثت الهدية مع رجل من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو) الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ٣٧﴾[43](سورة النمل،الآية 37) يقول ارجع بهديتك التي قدمت بها إلي، فإن عندي مما قد أنعمالله علي وأسداه إلي من الأموال والتحف والرجال، ما هو أضعاف هذا وخير من هذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) [سورة النمل: 37 ] أي فلأبعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ولا نزالهم ولا ممانعتهم ولا قتالهم ولأخرجنهم من بلدهم وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم أذلة (وهم صاغرون) عليهم الصغار والعار والدمار.
فلما بلغهم ذلك عن نبيالله لم يكن لهم بد من السمع والطاعة، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة، وأقبلوا صحبةالملكة أجمعين سامعين مطيعين خاضعين. فلما سمع بقدومهم عليه، ووفودهم إليه، قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له منالجان ما قصهالله عنه فيالقرآن:﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ٣٨ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ٣٩ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ٤٠ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ٤١ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ٤٢ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ٤٣﴾[44] (سورة النمل،الآيات 38 - 43) لما طلب سليمان منالجان أن يحضروا له عرشبلقيس، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها، قبل قدومها عليه (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) يعني قبل أن ينقضي مجلس حكمك وكان فيما يقال من أول النهار إلى قريب الزوال يتصدى لمهماتبني إسرائيل وما لهم من الأشغال (وإني عليه لقوي أمين) أي وإني لذو قدرة على إحضاره إليك وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك (قال الذي عنده علم من الكتاب) المشهور أنهآصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان. وقيل هو رجل من مؤمنيالجان كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم. وقيل رجل منبني إسرائيل من علمائهم. وقيل كذلك أنهجبريل (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) قيل معناه قبل أن تبعث رسولا إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ثم يعود إليك. وقيل قبل أن يصل إليك أبعد من تراه من الناس وقيل قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك. وقيل قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته وهذا أقرب ما قيل. (فلما رآه مستقرا عنده) أي فلما رأى عرشبلقيس مستقرا عنده في هذه المدة القريبة من بلاداليمن إلىبيت المقدس في طرفة عين (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) أي هذا من فضلالله علي وفضله على عبيده ليختبرهم على الشكر أو خلافه (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) أي إنما يعود نفع ذلك عليه (ومن كفر فإن ربي غني كريم) أي غني عن شكر الشاكرين ولا يتضرر بكفرالكافرين. ثم أمر سليمان عليه السلام أن يغير حلى هذا العرش وينكر لها ليختبر فهمها وعقلها ولهذا قال: (ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو) وهذا من فطنتها وغزارة فهمها لأنها استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرضاليمن ولم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب.
مصر التي كانت تمر بفترة انتقالية سماها علماءالمصرياتبالفترة الانتقالية الثالثة خلال حكمالأسرة المصرية السادسة والعشرين، وردت عنها آثار عن علاقاتبالآشوريين في هذه الفترة وتحالفات بين عدد من الممالك مع مصر ضدهم ولا إشارة لسليمان وإسرائيل على الإطلاق،[45] ويعتقد عدد من الناقدين أن قصةملكة سبأ قد تكون تلفيقا من كتبة التوراة لإيجاد شاهد أجنبي على ثروة سليمان وحكمته.[46] ولكن يستدل آخرون، أنه في حين كانت مملكة إسرائيل محاطة بحضارات وممالك قوية ولم تغزها فذلك إنما يدل على قوة جند سليمان آنذاك.[47]
^قالالقرطبي فيأحكام القرآن ج 13 / 168 وفي الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض; إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
^Emberling, Geoff (2011). Nubia: Ancient Kingdoms of Africa. New York, NY: Institute for the Study of the Ancient World. pp. 10.ISBN 978-0-615-48102-9.
^James Alan Montgomery, Arabia and The Bible P. 181