هوالحسن بن يسار، أبو سعيد، وكان أبوه مولىزيد بن ثابت الأنصاري، وقيل مولى أبي اليسركعب بن عمرو السلمي. وهو من أهلميسان، نبطي بابلي عراقي قديم، وهو ما أثبتته عدد من الدراسات الأكاديمية التاريخية، حيث ثبتت عروبته وإنه من أصل عربي عند المؤرخين العرب مثلمصطفى جواد،وناجي معروف وغيرهم، ولقد أثبت ناجي معروف عروبته وانتماءه إلى أصل عربي بسند تاريخي[7]، سكن أبوهالمدينة وأُعتِق وتزوج بها في خلافةعمر بن الخطاب فولد له بهاالحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر.[8]
ولد قبل سنتين من نهاية خلافةعمر بن الخطاب فيالمدينة عامواحد وعشرين من الهجرة، وأمه خيرة مولاةلأم سلمة أم المؤمنين كانت تخدمها، وربما أرسلتها في حاجاتها فيبكيالحسن وهو رضيع فتشاغلهأم سلمة برضاعته لتسكته، وبذلك رضع منأم سلمة، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيهاالحسن من بركة تلك الرضاعة من أم المؤمنين زوجة رسول اللهﷺ. وكانتأم سلمة تخرجه إلىالصحابة فيدعون له، ودعا لهعمر بن الخطاب، فقال: «اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس». حفظالحسنالقرآن في العاشرة من عمره، ونشأ فيالحجاز بينالصحابة، ورأى عدداً منهم وعاش بين كبارهم، مما دفعه إلى التعلم منهم، والرواية عنهم، وحضرالجمعة مععثمان بن عفان وسمعه يخطب، وشهديوم استشهاده يوم تسلل عليه قتلته الدار، وكان عمره أربع عشرة سنة.[9]
وفي سنة37 هـ انتقل إلىالبصرة، فكانت بها مرحلة التلقي والتعلم، حيث استمع إلىالصحابة الذين استقروا بها، وفي سنة43 هـ عمل كاتبا في غزوة لأميرخراسانالربيع بن زياد الحارثي لمدة عشر سنوات، وبعد رجوعه من الغزو استقر فيالبصرة حيث أصبح أشهر علماء عصرهومفتيها حتى وفاته.
انفصل عنه تلميذهواصل بن عطاء وكون الحلقة الأولىلمذهب المعتزلة، وكان سبب ذلك أنواصلاً ابن عطاء سأل الحسن البصري عن عصاة الموحدين فقال الحسن: «هم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم»، فقال واصل: «بل هم في منزلة بين المنزلتين»، ثم اعتزل حلقته، فقال الحسن البصري «اعتزلنا واصل»، فسميت فرقته منذ ذلك الحينبالمعتزلة.
لقد كانالحسن أعلم أهل عصره، يقولقتادة: «ما جمعت علمه إلى أحد العلماء إلا وجدت له فضلا عليه، غير أنه إذا أشكل عليه كتب فيه إلىسعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فقيها قط إلا رأيت فضلالحسن».
كتبالحسن إلى رجل من الزهاد يقال له عبد الرحيم أو عبد الرحمن بن أنس الرمادي كان يسكنمكة وكان له فضل ودين وذكر ولم يكن له في الدنيا عمل إلا عبادة الله تعالى وأنه أراد الخروج من مكة إلى اليمن فبلغ ذلكالحسن وكان يواخيه في الله تعالى فكتب إليه كتابا يرغبه في المقام بمكة زادها الله شرفا فكان ذلك هو الكتاب الوحيد الذي ظهر من مؤلفاته وهو بعنوان فضائل مكة.[10]
عاشالحسن الشطر الأكبر من حياته فيدولة بني أمية، وكان موقفه متحفظاً على الأحداث السياسية، وخاصة ما جرّ إلى الفتنة وسفك الدماء، حيث لم يخرج مع أي ثورة مسلحة ولو كانت باسمالإسلام، وكان يرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، وفوضى ساعة يرتكب فيها من المظالم ما لا يرتكب في استبداد سنين، ويؤدي الخروج إلى طمع الأعداء فيالمسلمين، ولأن الناس يخرجون من يد ظالم إلى ظالم، وإن شق إصلاح الحاكم فما زال إصلاح المحكومين يسير[بحاجة لمصدر]. أما إن كان الحاكم ورعاً مطبقاً لأحكامالله مثلعمر بن عبد العزيز، فإنالحسن ينصح له، ويقبل القضاء في عهده ليعينه على أداء مهمته.
كتبالحسنلعمر بن عبد العزيز ينصحه فقال: «فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملككالله كعبد أئتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وبدد ماله». ولقد عنفالحسن البصري طلبة العلم الشرعي الذين يجعلون علمهم وسيلة للاستجداء، فقال لهم: «والله لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم، فزهدوا فيما عندكم».
عندما استتبللحجاج أمرالعراق، أقام لنفسه قصرًا مشيدًا وبيتًا في مدينةواسط الواقعة بينالبصرةوالكوفة، وعندما انتهى من بنائه طلب من الناس الخروج لرؤيته ومشاهدته عن كثب، ووصف جماله وبهرجته وروعته، فلما وصل الخبر إلى الحسن البصري رحمه الله، وجد أن هذا التجمع يعد فرصة مواتية لإحقاق الحق ودعوة الناس إلى الخير، وصرفهم عن الزخارف وجمالها بما عند الله من فضل، ويذكرهم بالله وبأن الدنيا وبهجتها لا تسوي شيئًا عند الله تعالى. حيث خرج الحسن البصري فوجد أهل العراق يطوفون بقصر الحجاج معجبين بجماله وأناقته وحُسن تصميمه، فقال في حماسة ولهجة وعظ: “لقد نظرنا فما أبتنى أخبث الناس، فوجدنا أن فرعون قد شيد أعظم مما شيد، وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله فرعون، وآتى على ما بنى وشيد… ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرّوه”. وقد مضى على تلك الطريقة، فأخذ يفضح الحجاج بأبشع الألفاظ، حتى إن الحاضرين قد أشفقوا عليه من الحجاج، فقالوا له: “حسبك يا أبا سعيد، حسبك هذا”، ولكنه ردهم بأن الله قد أخذ على أهل العلم والدين الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وها أنا أبين لكم ما خفي عنكم.[11]
جاء الحجاج مجلسه صبيحة اليوم التالي وقد استشاط غضبًا مما قاله الحسن، وتعجب على جرأته عليه وهو يعلم عاقبة أمره. نظر الحجاج إلى جلسائه وقال: “تبًا لكم وسحقًا، يقوم عبدٌ من عبيد أهلالبصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه! والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء”. ثم نادى على السياف وأمره بإحضار النطع، ودعا الجلاد فحضر بين يديه، ثم أعطى أمره إلى الشرطة بإحضار الحسن، فارتجفت القلوب من ذاك الموقف، وجاء الحسن شامخًا وشفتاه تتحركان بكلمات لا يعيها من حوله، وتوجه إلى الحجاج في عزة نفس وعزيمة وإقبال. فما إن رآه الحجاج حتى قال له في مهابة ووقار لا يصدقان: “ها هنا يا أبا سعيد، ها هنا”، حتى أجلسه على مجلسه وسط دهشة عارمة من الحاضرين. ثم بدأ يوجه إليه الأسئلة فيما يحير ويحتاج إلى علم وفقه، والحسن يجيبه في كل ما يسأل بما لديه من سعة علم وفضل، فما كان من الحجاج إلا أن قال له: “أنت سيد العلماء يا أبا سعيد”، ثم قام فطيب له لحيته بأغلى أنواع الطيب وودعه.[11]
فلما خرج الحسن وجد الحاجب خلفه ينادي عليه قائلاً: ” يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، وأنى رأيتك عندما أقبلت، ورأيت السيف والنطع، حركت شفتيك فماذا قلت؟”. فتبسم الحسن له وقال: “لقد قلت: يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردًا وسلامًا عليّ كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم”. وهكذا كانت تلك الدعوة منجية للحسن من الهلاك في ذلك اليوم، وهكذا خلدت قصة الحسن البصري مع الحجاج، حيث جاء الحجاج في اليوم التالي وقد استشاط غضبًا على جلسائه؛ إذ لم يعرفوا كيف يردون على الحسن فيما قاله بالأمس، فاستطاع بذلك أن يخرج من مجلس أعد لموته حيًّا، وذلك بفضل الله ونعمته.[11]
كانالحسن البصري حسن الصورة، بهي الطلعة، وكان عظيم الزند، قالمحمد بن سعد: «كانالحسن فقيها، ثقة، حجة، مأمونا، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، وسيما». وكان من الشجعان الموصوفين في الحروب، وكانالمهلب بن أبي صفرة يقدمهم إلى القتال، واشتركالحسن فيفتح كابور مععبد الرحمن بن سمرة.
وقالالغزالي: «وكانالحسن البصري أشبه الناس كلاما بكلامالأنبياء، وأقربهم، هديا منالصحابة، وكان غايةً في الفصاحة، تتصبب الحكمة من فيه». (أي من فمه)
كانالحسن كثير الحزن، عظيم الهيبة، قال أحد أصحابه: «ما رأيت أحدا أطول حزنا منالحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة».
كان يقول: «نضحك ولا ندري لعلالله قد اطلع على بعض أعمالنا». فقال: «لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابنآدم، هل لك بمحاربةالله طاقة؟ إن من عصىالله فقد حاربه،والله لقد أدركت سبعينبدرياً، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رؤوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، ولو رؤوا شراركم لقالوا ما يؤمن هؤلاءبيوم الحساب».
قالحمزة الأعمى: «وكنت أدخل علىالحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يوماً إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة. فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل، لعله تعالى أن يرحمك». ثم نادالحسن: «بلغنا أن الباكي من خشيةالله لا تقطر دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار».
عنحفص بن عمر قال: «بكىالحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي».
أما عن سبب حزنه فيقولالحسن: «يحق لمن يعلم أنالموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يديالله تعالى مشهده، أن يطول حزنه».
روىالطبراني عنه أنه قال: «إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة. يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك».
وجاء شاب إلىالحسن فقال: «أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم أستطعه)»، فقال: «قيدتك خطاياك». وجاءه آخر فقال له: «إني أعصيالله وأذنب، وأرىالله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء»، فقال لهالحسن: «هل تقوم الليل؟ فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمكالله مناجاته».
كان يقول: «من علاماتالمسلم قوة دين، وجزم في العمل وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحسن في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة (جوع) وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة. لا ترديه رغبته ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يقلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نغيته».
قال له رجل: «إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً (أي يتصيدون الأخطاء)». فقال: «هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟».
سُئلالحسن عنالنفاق فقال: «هو اختلاف السر والعلانية، والمدخل والمخرج، ما خافه إلا مؤمن (أيالنفاق) ولا أمنه إلا منافق».
سُئلأنس بن مالك عن مسألة فقال: «سلوا مولاناالحسن»، قالوا: «ياأبا حمزة نسألك، تقول: سلواالحسن؟» قال: «سلوا مولاناالحسن فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا». وقال أيضاً: «إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخينالحسن البصريومحمد بن سيرين».
وقالقتادة: «وما جالست رجلاً فقيها إلا رأيت فضلالحسن عليه»، وكانالحسن مهيباً يهابه العلماء قبل العامة.
نقلالريشهري: الخرائج والجرائح: إنعلياً رأى الحسن البصري يتوضأ في ساقية، فقال: أسبغ طهورك يا كفتي. قال: لقد قتلت بالأمس رجالا كانوا يسبغون الوضوء. قال: وإنك لحزين عليهم؟ قال: نعم. قال: فأطال الله حزنك. قال أيوب السجستاني: فما رأينا الحسن قط إلا حزينا كأنه يرجع عن دفن حميم، أو كأنه خربندج ضل حماره، فقلنا له في ذلك، فقال: عمل في دعوة الرجل الصالح. وكفتي: بالنبطية شيطان، وكانت أمه سمته بذلك ودعته في صغره، فلم يعرف ذلك أحد حتى دعاه بهأمير المؤمنين.[14]
^الدليل السياحي للأضرحة والمقامات في العراق - دائرة الأضرحة والمقامات والمراقد السنية العامة - بغداد - صفحة 70، 71.
^الخرائج والجرائح - قطب الدين الراوندي ج٢ باب فصل في أعلام أمير المؤمنين ص٥٤٧، ونقل عنه موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج١١ باب ٥٧٩٢ استجابة دعائه على أنس بن مالك ص٧٢.